العز عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام
تنبأ لنفسه أنه سيعيش ثلاثا وثمانين عاما، فكان الأمر كما قال!. زاره صديق ذات صباح فقال له: "رأيتك في المنام تنشد:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
فسكت ساعة ثم قال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن، فهو شيعي وأنا سني، وهو قصير وأنا لست بقصير، وقد عاش ثلاثا وثمانين سنة فسأعيش كما عاش أن شاء الله.
ولد في دمشق عام 577 هـ، وتوفى بالقاهرة عام 660 هـ، ودفن بسفح المقطم.
وحين بلغ الثانية والستين، بدأ حياة جديدة، وغير كل ما تعوده وهو صغير: فقد ترك دمشق مغاضبا وهاجر إلى الله من بغي حاكم دمشق، واستقر في القاهرة، وشرع في تأليف الكتب. فوضع كل مصنفاته فيها، وما كان من قبل قد كتب شيئا يعتد به، ذلك أنه كان ينفق كل وقته في التدريس والخطابه والوعظ .. وفي القاهرة جمع إلى هذه الأعباء مسئولية الكتابة، فصنف كتبا في الفقه والتفسير والأصول والتصوف. وصاول الحكام!.
أطلق عليه أبوه اسم العز عز الدين عبد العزيز .. ولكنه عندما كبر اشتهر باسم عز الدين وباسم العز، وقلما كان يناديه الناس عبد العزيز.
وقد فتح العز بن عبد السلام عينيه على حياة الحرمان .. كان أبوه عبد السلام فقيرا جهد الفقر وكان يجوب الأسواق بحثا عن عمل.
وحين شب الطفل صحبه أبوه ليساعده في بعض الأعمال الشاقة كإصلاح الطرق وحمل الأمتعة، وتنظيف ما أمام محلات التجار ..
وكان أبوه عبد السلام يأخذه إلى الجامع الأموي إذا حان وقت الصلاة، ورآه أحد شيوخ المسجد. فأعجب به ودعا له.
مات أبوه فلم يجد في نفسه القوة إلى القيام بالأعمال الشاقة التي كان يؤديها أبوه، ولم يجد الصبي مكانا يأوي إليه، فذهب إلى الشيخ يلتمس عنده المساعدة في الحصول على عمل يقتات منه وكان يبيت فيه.
وتوسط له الشيخ فألحقوا الصبي بالجامع الأموي، يساعد الكبار في أعمال النظافة، وفي حراسة نعال المصلين وأهل الحلقات التي يتركونها عند أحد أبواب الجامع، وسمحوا له بأن ينام الليل في زاوية بأحد دهاليز الجامع، على الرخام.
وكان الصبي يعايش مرائي الغنى والمتاع خلف أسوار القصور بحدائقها الفيحاء في دمشق، ويشاهد الجياد الفارهة على صهواتها رجال تنعكس الشمس على خوذاتهم، وملابسهم الزاهية وسيوفهم المرصعة بالذهب، ويتأمل حاله وثوبه الذي تقتحمه العيون، ومضجعه البارد على رخام زاوية في المسجد، ثم يتساءل في أغوار نفسه كيف يعيش في بلد واحد رجال ونساء كهؤلاء الغارقين في النعيم، والذين يسقطون من الحرمان، ويقتاتون بالأسى والأحلام؟!
على أنه صرف همه إلى ما يقوله الشيوخ في الحلقات .. وكان يتناهى إلى سمعه وهو على باب المسجد يحرص النعال كلام يثير خياله، ويلهب أشواقه إلى دنيا أخرى لا يجوع فيها ولا يعرى!
وتسلل إلى إحدى الحلقات ذات يوم، ودس جسده النحيل الصغير بين الطلبة الكبار. ورآه شيخ الحلقات، فنهره، وسأله كيف يسمح لنفسه أن يجلس بثوب ممزق في مجلس للعلم ينبغي على الطالب فيه أن يأخذ زينته..؟!
وجرى الصبي إلى باب المسجد، وتكور على نفسه يبكي! .. حتى إذا حان خروج الشيوخ والطلاب، رآه الشيخ الذي ألحقه بالجامع وهو الفاخر بن عساكر صاحب حلقة الفقه الشافعي، وسأله الشيخ عما يبكيه، فروى له ما كان من أمره، فطيب الشيخ خاطره، ووعده أن يتعهده، وسيحضر الحلقات عندما يبلغ الشباب. ومن يدري!؟ فربما أصبح هذا الصبي نفسه شيخا لحلقة في هذا الجامع ذات يوم! ..
وضحك الصبي، والتمعت عيناه، واقتحمت نظراته الجدران إلى آفاق المستقبل، ورأى نفسه طالب علم، ثم شيخا لحلقة، فأوشك أن يثب من الفرح، وقبل يد الشيخ وسأله متى يبدأ التعليم، فقد جاوز سن الطلب؟!. وقال له الشيخ الفخر بن عساكر، أنه سيبدأ من الغد.
حتى إذا كان الغد، أخذه الشيخ إلى مكتب ملحق بالمسجد وأوصى بإن يتعلم القراءة والكتابة والخط وأن يحفظ القرآن، وتعهد الشيخ بنفقة الصبي.
وأقبل العز على المكتب في شغف عظيم، وحفظ القرآن، وأتقن القراءة والكتابة والخط الحسن وعوض ما فاته من سنوات الدرس.
وكان كلما لقي شيخه على باب الجامع سأله الشيخ عن حاله، فيسمعه الصبي ما حفظ من القرآن، ويطلعه على ما يكتب في اللوح الصفيح من الآيات الكريمة.
وأعجب الشيخ ابن عساكر بما يبدو على العز من مخايل النجابة والذكاء وحسن ترتيله للقرآن، وأعجب بصفة خاصة ببشاشة الصبي على الرغم من فقره الطاحن.!
ومرت أعوام، واطمأن الشيخ فخر الدين إلى أن الصبي قد أتقن حفظ القرآن وجوده، وإلى أنه قد أصبح يحذق القراءة والكتابة بخط جميل، فبشره الشيخ بأنه سيضمه إلى الطلاب الذين يحضرون حلقته، ودفع إليه بما يعينه على شراء ثوب صالح لحضور حلقات العلم.
وأمضى الصبي ليلته يحلم بالمستقبل!
إنه الآن ليثب إلى مرحلة الشباب، وفي حاجة إلى عمل يكفل له دفء المسكن والثوب اللائق والطعام الطيب..! هو في حاجة إلى ما يوفر له شراء أدوات التحصيل من دفاتر وأقلام وأوراق ومحبرة، وما يلزم من كتب.
وتحرج أن يكلم الشيخ ليساعده في الحصول على عمل آخر يحصل منه على أجر أكبر ويوفر له ما ينبغي لطالب العلم! .. لقد منعه الحياء! ..
وقبل أن تنتهي ليلته استيقظ فجأة !.
ويحدثنا السبكي في طبقات الشافعية عن تلك الليلة فيقول: "كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في كلاسة "زاوية" من جامع دمشق، فبات فيها ليلة ذات برد شديد فاحتلم، فقام مسرعا ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فناد، فاحتلم ثانيا، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد .. ثم سمع النداء: "يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل؟ فقال: بل العمل لأنه يهدي إلى العلم".
وأصبح الفتى عز الدين، فروى لشيخه ابن عساكر ما كان من أمر تلك الليلة. وقال الشيخ له "لقد بلغت مبلغ الرجال. وهذا النداء هاتف من السماء يأمرك أن تهب نفسك للعلم".
وأعطاه الشيخ كتاب "التنبيه" في الفقه الشافعي، وأعطاه أسبوعين مهلة ليحسن قراءته واستيعابه. وعاد العز إلى شيخه بعد ثلاثة أيام وقد استوعب الكتاب وحفظه عن ظهر قلب!
وضمه الشيخ إلى حلقته، ونظم له حضور حلقات أخرى في اللغة وآدابها، وفي الحديث وأصول الفقه. ونصحه أن يتقن علوم اللغة من نحو وصرف، وأن يحفظ الشعر ويدرسه ليحسن فهم نصوص القرآن.
وكان العصر زاخرا بكثير من المعارف. ولكن الشيخ ابن عساكر نصح تلميذه ألا يهتم من كل تلك العلوم إلا بما يعين على فهم القرآن.
ولزم عز الدين شيخه ابن عساكر، وتعلم منه الفقه الشافعي، وكان الشيخ زاهدا ورعا واسع المعرفة كثير الصدقات، خطيبا، لاذعا، وهو في الوقت نفسه شديد الحياء، وكان مرحا متألق الظرف، فتأثر تلميذه عز الدين ونقل عنه كثيرا من خصاله وسجاياه.