عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
أحد فقهاء المدينة السبعة، الذين كان يدور عليهم أمر الفتوى كان عالما فاضلا، فقيها تقيا، وكان شاعراً رقيقاً غزلا، ذا حس مرهف، وعاطفة جياشة، وخلق سمح، وكان إلي جانب هذا كله ثقة، كثير الحديث، وحسبه أنه أحد الفقهاء الذين يرجع إليهم أهل المدينة في معرفة أمور دينهم. وقد قيل عنه: لم يكن بعد الصحابة فقيه أشعر منه ولا شاعر أفقه منه، ذلك هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
أسرته
كان أبوه عبد الله رجلا صالحا. تولى بعض الأعمال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. فحمد سيرته. ولعبيد الله أخوان، هما عون، وعبد الرحمن، وقد اشتهر عون بالفقه والأدب والنسك. وكان وثيق الصلة بعمر بن عبد العزيز وله دالة عليه، وكان يدخل عليه في أي وقت يشاء. بلا إذن مسبق، وهو الذي توجه إلي جرير بقوله لما طال بالشعراء الانتظار أمام باب عمر:
يا أيها القارئ المرخي عمامته أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه هذا زمانك إني قيد مضى زمني أني لدي الباب كالمصفود في قرن
وكان عون هذا يرى الإرجاء ثم رجع عنه، وله شعر يقول فيه:
فــأول مـا أفــارق غـيـر شــك أفـارق مـا يـقـول المـرجـئـونـا
وقــالوا مــؤمــن مـن آل جــور وليــس المــؤمـنـون بـجـائرينا
وقــالوا مــؤمــن دمــه حــلال وقـد حــرمـت دمــاء المـؤمنينا
وكانت له مشاركة في أحداث عصره، فقد اشترك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجاج، وهرب بعد هزيمة ابن الأشعث، فلجأ إلي محمد بن مروان بن الحكم بنصيبين فأمنه، ووكل إليه تأديب ولديه مروان وعبد الرحمن، وقد سأله يوما: كيف رأيت ابني أخيك؟ فقال: أما عبد الرحمن فطفل، وأما مروان، فإني إن أتيته حجب، وإن قعدت عنه عتب، وإن عاتبته صخب، وإن صاحبته غضب، ثم تركه ولزم عمر بن عبد العزيز. وأما عبد الرحمن فلم تكن له نباهة أخويه ولا فضلهما فخمل ذكره. وأما جده فعتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شيوخه
كان عبيد الله من فضلاء التابعين، وروي الحديث عن أبيه، وأرسل عن عم أبيه عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة وابن عباس وعائشة، وابن عمر، وعثمان وسهل ابني حنيف، والنعمان بن بشير وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري، وأبي واقد الليثي، وفاطمة بنت قيس، وزيد بن خالد، وعبد الرحمن بن عبد القارى، وأم القيس بنت محصن.
تلاميذه
روي عنه أخوه عون بن عبد الله، ومحمد بن شهاب الزهري، وسعد بن إبراهيم، وأبو الزناد، وصالح بن كيسان وعراك بن مالك وموسى بن أبي عائشة، وأبو بكر بن الجهم العدوي، وضمرة بن سعيد، وطلحة بن يحيى بن طلحة، وعبد الله بن عبيد الله الربذي، وعبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف، وحصيف الجذري.
علمه وقوة حافظته
كان عبيد الله ذا حافظة واعية حتى قال عن نفسه فيما يرويه ابن حجر: ما سمعت حديثا قط، ما شاء الله أن أعيه إلا وعيته. وكانت هذه المقدرة إلي جانب دينه وتقواه مؤهلات له أن يكون أحد فقهاء المدينة السبعة، وأن ينال احترام العلماء وتقديرهم له، وثناءهم عليه، سواء كانوا معاصرين له أو متأخرين عنه، وحتى أدهشت غزارة علمه رجلا مثل الزهري فقال عنه: كنت إذا لقيت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فكأنما أفجر به بحرا. ويقول في مجال آخر: ما جالست أحدا من العلماء إلا أرى أني قد أتيت على ما عنده، وقد كنت اختلفت إلي عروة حتى ما كنت أسمع منه إلا معادا ما خلا عبيد الله بن عتبة، فإني لم آته إلا وجدت عنه علما طريفا. وروى عنه أيضاً قوله: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فلما لقيت عبيد الله بن عبد الله كأني كنت في شعب من الشعاب فوقعت في الوادي، وفي رواية أخرى: فسرت كأني لم أسمع من العلم شيئا.
وحديث الزهري عنه حديث رجل لاقاه ودارسه وأخذ عنه وعن غيره، واستطاع أن يدرك عن قرب الفرق بينه وبين غيره من العلماء وهذه الغزارة في العلم مع رحابة الأفق، وطلاوة الحديث، وحسن السمت. وعلو النفس ـ كل هذه القدرات جعلت رجلا مثل عمر بن عبد العزيز يتمنى الجلوس إليه، والاستماع إلي حديثه، ويقول: ليت لي مجلسا من عبيد الله بن عتبة بألف دينار. وقد أورد ابن خلكان هذا الخبر بتفصيل أتم حيث يقول: قال عمر بن عبد العزيز: لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا وما فيها، وقال لأصحابه: والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك؟
فقال: أين يذهب بكم، والله، إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف. إن في المجادلة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وكان دائما يقول: لو كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حيا ما صدرت إلا عن رأيه، وهذه ثقة مجرب في رجاحة عقل عبيد الله، واستقامة دينه، وسداد رأيه. وحينما يقول عمر ذلك بعدما جلس بين يديه سنوات يتلقى على يديه العلم والحديث والأدب إنما يقوله عن تجربة ودراية لا يبتغي بما يقول إلا مرضاة الله وهو من يعرف نسكا وزهدا وعدلا حتى لقب بخامس الخلفاء الراشدين.